فصل: تفسير الآيات رقم (28- 30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ‏(‏28‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏29‏)‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

البوار‏:‏ الهلاك‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلم أر مثلهم أبطال حرب *** غداة الحرب إذ خيف البوار

‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار‏.‏ جهنم يصلونها وبئس القرار‏.‏ وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار‏}‏‏:‏ لم ذكر حال المؤمنين وهداهم، وحال الكافرين وإضلالهم، ذكر السبب في إضلالم‏.‏ والذين بدلوا ظاهره أنه عام في جميع المشركين قاله الحسن، بدلوا بنعمة الإيمان الكفر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم أهل مكة، أنعم الله تعالى عليهم ببعثه رسولاً منهم يعلمهم أمر دينه وشرفهم به، وأسكنهم حرمه، وجعلهم قوام بيته، فوضعوا مكان شكر هذه النعمة كفراً‏.‏ وسأل ابن عباس عمر عنهم فقال‏:‏ هما الأعراب من قريش أخوالي أي‏:‏ بني مخزوم، واستؤصلوا ببدر‏.‏ وأعمامك أي‏:‏ بني أمية، ومتعوا إلى حين‏.‏ وعن علي نحو من ذلك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم قادة المشركين يوم بدر‏.‏ وعن علي‏:‏ هم قريش الذين تحزبوا يوم بدر‏.‏ وعلى أنهم قريش جماعة من الصحابة والتابعين‏.‏ وعن علي أيضاً‏:‏ هم منافقو قريش أنعم عليهم بإظهار علم الإسلام بأن صان دماءهم وأموالهم وذراريهم، ثم عادوا إلى الكفر‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ في جبلة بن الأيهم، ولا يريد أنها نزلت فيه، لأن نزول الآية قبل قصته، وقصته كانت في خلافة عمر، وإنما يريد ابن عباس أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة‏.‏

ونعمة الله على حذف مضاف أي‏:‏ بدلوا شكر نعمة الله كقوله‏:‏ ‏{‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏}‏ أي شكر رزقكم، كأنه وجب عليهم الشكر فوضعوا مكانه كفراً، وجعلوا مكان شكرهم التكذيب‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ووجه آخر وهو أنهم بدلوا نفس النعمة بالكفر حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة، وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمة، وجعلهم قوام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا نعمة الله بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم الله بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم انتهى‏.‏ ونعمة الله هو المفعول الثاني، لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي‏:‏ بنعمة الله، وكفراً هو المفعول الأول كقوله‏:‏ ‏{‏فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات‏}‏ أي بسيئاتهم حسنات‏.‏ فالمنصوب هو الحاصل، والمجرور بالباء أو المنصوب على إسقاطها هو الذاهب، على هذا لسان العرب، وهو على خلاف ما يفهمه العوام، وكثير ممن ينتمي إلى العلم‏.‏ وقد أوضحنا هذه المسألة في قوله في البقرة‏:‏ ‏{‏ومن يتبدل الكفر بالإيمان‏}‏ وإذا قدرت مضافاً محذوفاً وهو شكر نعمة الله، فهو الذي دخلت عليه الباء ثم حذفت، وإذا لم يقدر مضاف محذوف فالباء دخلت على نعمة ثم حذفت‏.‏

وأحلوا قومهم أي‏:‏ من تابعهم على الكفر‏.‏ وزعم الحوفي وأبو البقاء أنّ كفراً هو مفعول ثان لبدلوا، وليس بصحيح، لأنّ بدل من أخوات اختار، فالذي يباشره حرف الجر هو المفعول الثاني، والذي يصل إليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الأول‏.‏ وأعرب الحوفي وأبو البقاء‏:‏ جهنم بدلاً من دار البوار، والزمخشري عطف بيان، فعلى هذا يكون الإحلال في الآخرة‏.‏ ودار البوار جهنم، وقاله‏:‏ ابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ عن علي يوم بدر، وعن عطاء بن يسار‏:‏ نزلت في قتلى بدر، فيكون دار البوار أي‏:‏ الهلاك في الدنيا كقليب بدر وغيره من المواضع التي قتلوا فيه‏.‏ وعلى هذا أعرب ابن عطية وأبو البقاء‏:‏ جهنم منصوب على الاشتغال أي‏:‏ يصلون جهنم يصلونها‏.‏ ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة‏:‏ جهنم بالرفع على أنه يحتمل أن يكون جهنم مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهذا التأويل أولى، لأنّ النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه، ولا ما يكون مساوياً، وجمهور القراء على النصب‏.‏ ولم يكونوا ليقرأوا بغير الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته أفصح من زيداً ضربته، فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في قراءة ابن أبي عبلة راجحاً، وعلى تأويل الاشتغال يكون يصلونها لا موضع له من الإعراب، وعلى التأويل الأول جوزوا أن يكون حالاً من جهنم، أو حالاً من دار البوار، أو حالاً من قومهم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره‏:‏ وبئس القرار هي أي‏:‏ جهنم‏.‏ وجعلوا لله أنداداً أي زادوا إلى كفرهم نعمته أن صيروا له أنداداً وهي الأصنام التي اتخذوا آلهة من دون الله‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمر‏:‏ وليضلوا هذا، و‏{‏ليضل‏}‏ في الحج ولقمان والروم بفتح الياء، وباقي السبعة بضمها‏.‏ والظاهر أنّ اللام لام الصيرورة والمآل‏.‏ لما كانت نتيجة جعل الأنداد آلهة الضلال أو الإضلال، جرى مجرى لام العلة في قولك‏:‏ جئتك لتكرمني، على طريقة التشبيه‏.‏ وقيل‏:‏ قراءة الفتح لا تحتمل أن تكون اللام لام العاقبة، وأما بالضم فتحتمل العاقبة‏.‏ والعلة والأمر بالتمتع أمر تهديد ووعيد على حد قوله‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ تمتعوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه، ولا يملكوه لأنفسهم أمراً دونه، وهو آمر الشهوة والمعنى‏:‏ إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإنّ مصيركم إلى النار‏.‏ ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه‏:‏ ‏{‏قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار‏}‏ انتهى ومصيركم مصدر صار التامة بمعنى رجع‏.‏ وخبر إنّ هو قوله‏:‏ إلى النار، ولا يقال هنا صار بمعنى انتقل، ولذلك تعدى بإلى أي‏:‏ فإنّ انتقالكم إلى النار، لأنه تبقى إنّ بلا خبر، ولا ينبغي أن يدعي حذفه، فيكون التقدير‏:‏ فإن مصيركم إلى النار واقع لا محالة أو كائن، لأنّ حذف الخبر في مثل هذا التركيب قليل، وأكثر ما يحذف إذا كان اسم إنّ نكرة، والخبر جار ومجرور‏.‏ وقد أجاز الحوفي‏:‏ أن يكون إلى النار متعلقاً بمصيركم، فعلى هذا يكون الخبر محذوفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ‏(‏31‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ‏(‏32‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏(‏33‏)‏ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى حال الكفار وكفرهم نعمته، وجعلهم له أنداداً، وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم، وإلزام عمودي الإسلام الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة‏.‏ ومعمول قل، محذوف تقديره‏:‏ أقيموا الصلاة يقيموا‏.‏ ويقيموا مجزوم على جواب الأمر، وهذا قول‏:‏ الأخفش، والمازني‏.‏ ورد بأنه لا يلزم من القول إنْ يقيموا، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين، والمؤمنون حتى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله‏:‏ قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى‏.‏ وهذا قريب مما قبله، إلا أن في ما قبله معمول القول‏:‏ أقيموا، وفي هذه الشريعة على تقدير بلِّغ الشريعة‏.‏ وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله‏:‏ يقيموا، وهو أمر مجزوم بلام الأمر محذوفة على حد قول الشاعر‏:‏

محمد تفد نفسك كل نفس *** أنشده سيبويه إلا أنه قال‏:‏ إنّ هذا لا يجوز إلا في الشعر‏.‏ وقال الزمخشري في هذا القول‏:‏ وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل، عوض منه‏.‏ ولو قيل‏:‏ يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز انتهى‏.‏ وذهب المبرد إلى أنّ التقدير‏:‏ قل لهم أقيموا يقيموا، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف قيل‏.‏ وهو فاسد لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّ جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل، أو في الفاعل، أو فيهما‏.‏ فأما إذا كان مثله فيما فهو خطأ كقولك‏:‏ قم يقم، والتقدير على هذا الوجه‏:‏ أن يقيموا يقيموا‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية‏.‏ وقال الفراء‏:‏ جواب الأمر معه شرط مقدر تقول‏:‏ أطع الله يدخلك الجنة، أي إن تطعه يدخلك الجنة‏.‏ ومخالفة هذا القول للقول قبله أنَّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر، وفي الذي قبله الأمر مضمن معنى الشرط‏.‏ وقيل‏:‏ هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر، والمعنى‏:‏ أقيموا، قاله أبو علي فرقة‏.‏ ورد بأنه لو كان مضارعاً بلفظ الخبر ومعناه الأمر، لبقي على إعرابه بالنون كقوله‏:‏ ‏{‏هل أدلكم على تجارة‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ والمعنى‏:‏ آمنوا‏.‏ واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني‏:‏ على حذف النون، لأن المراد أقيموا، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك‏:‏ يا زيد، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة فهو أعم، إذ قدر قُلْ بمعنى بلِّغ وأدّ الشريعة‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ويظهر أن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله‏:‏ الله الذي خلق السموات والأرض انتهى‏.‏ وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام، يخالفه ترتيب التركيب، ويكون قوله‏:‏ يقيموا الصلاة كلاماً مفلتاً من القول ومعموله، أو يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله، ولا يترتب أن يكون جواباً، لأن قوله‏:‏ الله الذي خلق السموات والأرض، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جداً‏.‏ واحتمل الصلاة أنْ يراد بها العموم أي‏:‏ كل صلاة فرض وتطوع، وأن يراد بها الخمس، وبذلك فسرها ابن عباس‏.‏ وفسر الإنفاق بزكاة الأموال‏.‏ وتقدم إعراب ‏{‏سرا وعلانية‏}‏ وشرحها في أواخر البقرة‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ البيع هنا البذل، والخلال المخالة، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة وهي المصاحبة انتهى‏.‏ ويعني بالبذل مقابل شيء‏.‏ وقال امرؤ القيس‏:‏

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى *** ولست بمقلي الخلال ولا قال

وقال الأخفش‏:‏ الخلال جمع خلة‏.‏ وتقدم الخلاف في قراءة ‏{‏لا بيع فيه ولا خلال‏}‏ بالفتح أو بالرفع في البقرة، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستخرجوا بهداياهم أمثالها وخيراً منها، وأما الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله‏:‏ وما لا حد عنده من نعمة تجزي إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي‏:‏ لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله انتهى‏.‏ ولما أطال تعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء، وكان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته، والشقاوة بالجهل، بذلك ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته فقال‏:‏ الله الذي خلق السموات والأرض وذكر عشرة أنواع من الدلائل فذكر أولاً إبداعه وإنشاء السموات والأرض، ثم أعقب بباقي الدلائل، وأبرزها في جمل مستقلة ليدل وينبّه على أنّ كل جملة منها مستقلة في الدلالة، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد، والله مرفوع على الابتداء، والذي خبره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق انتهى‏.‏ يشير إلى ما تقدم من قوله‏:‏ إنّ معمول قل هو قوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرض الآية‏.‏ فكأنه يقول‏:‏ يقيموا الصلاة، جواب لقوله‏:‏ قل لعبادي الله الذي خلق السموات والأرض‏.‏ والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقاً لكم، ومِنْ للتبعيض‏.‏

ولما تقدّم على النكرة كان في موضع الحال، ويكون المعنى‏:‏ إن الرزق هو بعض جنى الأشجار، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات‏.‏ ويجوز أن تكون مِن لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري، وكأنه قال‏:‏ فأخرج به رزقاً لكم هو الثمرات‏.‏ وهذا ليس بجيد، لأنّ من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج، ورزقاً حالاً من المفعول، أو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق‏.‏ وقيل‏:‏ من زائدة، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين، لأنّ ما قبلها واجب، وبعدها معرفة، ويجوز عند الأخفش‏.‏ والفلك هنا جمع فلك، ولذلك قال‏:‏ لتجري‏.‏ ومعنى بأمره‏:‏ راجع إلى الأمر القائم بالذات‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لقوله، كن‏.‏

وانطوى في تسخير الفلك تسخير البحار، وتسخير الرياح‏.‏ وأما تسخير الأنهار فبجريانها وبتفجيرها للانتفاع بها‏.‏ وانتصب دائبين على الحال والمعنى‏:‏ يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات، عن مقاتل بن حبان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال‏:‏ معناه دائبين في طاعة الله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول إن كان يراد به أنّ الطاعة انقياد منهما في التسخير، فذلك موجود في قوله‏:‏ سخر، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر فهذا جيد، والله أعلم انتهى‏.‏ وتسخير الليل والنهار كونهما يتعاقبان خلفةً للمنام والمعاش‏.‏ وقال المتكلمون‏:‏ تسخير الليل والنهار مجاز، لأنّهما عرضان، والاعراض لا تسخر‏.‏ ولما ذكر تعالى تلك النعم العظيمة، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال‏:‏ وآتاكم من كل ما سألتموه، والخطاب للجنس من البشر أي‏:‏ أن الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أنْ يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد من الناس، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر فيقال‏:‏ بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة‏.‏

وقرأ ابن عباس، والضحاك، والحسن، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وعمرو بن قائد، وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع في رواية‏:‏ من كل بالتنوين، أي‏:‏ من كل هذه المخلوقات المذكورات‏.‏ وما موصولة مفعول ثان أي‏:‏ ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به‏.‏ وقيل‏:‏ ما نافية، والمفعول الثاني هو من كل كقوله‏:‏ ‏{‏وأوتيت من كل شيء‏}‏ أي غير سائليه‏.‏ أخبر بسبوغ نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم، ولم يعرض لما سألوه‏.‏ والجملة المنفية في موضع نصب على الحال، وهذا القول بدأ به الزمخشري، وثنى به ابن عطية وقال‏:‏ إنه تفسير الضحاك‏.‏ وهذا التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه بالإضافة، لأنّ في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية، فيكونون لم يسألوه‏.‏ وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه، وما بمعنى الذي‏.‏ وأجيز أن تكون مصدرية، ويكون المصدر بمعنى المفعول‏.‏

ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة وبين تلك على تقدير أنّ ما نافية قال‏:‏ ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ومعائشكم إلا به، فكأنكم سألتموه، أو طلبتموه بلسان الحال‏.‏ فتأول سألتموه بقوله‏:‏ ما احتجتم إليه‏.‏ والضمير في سألتموه إن كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى، ويكون المصدر يراد به المسؤول‏.‏ وإن كانت موصولة بمعنى الذي عاد عليها، والتقدير‏:‏ من كل الذي سألتموه إياه‏.‏ ولا يجوز أن يكون عائداً على الله‏.‏ والرابط للصلة بالموصول محذوف، لأنك إن قدرته متصلاً فيكون التقدير‏:‏ ما سألتموهوه، فلا يجوز‏.‏ أو منفصلاً فيكون التقدير‏:‏ ما سألتموه إياه، فالمنفصل لا يجوز حذفه‏.‏ والنعمة هنا قال الواحدي‏:‏ اسم أقيم مقام المصدر، يقال‏:‏ أنعم إنعاماً ونعمة، أقيم الاسم مقام الانعام كقولك‏:‏ أنفقت إنفاقاً ونفقة، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر انتهى‏.‏ والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به، وأنه هو اسم جنس لا يراد به الواحد بل يراد به الجمع، كأنه قيل‏:‏ وإن تعدوا نعمة الله ومعنى لا تحصوها، لا تحصوها، لا تحصروها ولا تطيقوا عدها، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال‏.‏ وأما التفصيل فلا يقدر عليه، ولا يعلمه إلا الله‏.‏ وقال أبو الدرداء‏:‏ من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه، وحضر عذابه‏.‏ والمراد بالإنسان هنا الجنس أي‏:‏ توجد فيه هذه الخلال وهي‏:‏ الظلم، والكفر، يظلم النعمة بإغفال شكرها، ويكفرها بجحدها‏.‏ وقيل‏:‏ ظلوم في الشدة فيشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع‏.‏ وفي النحل‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم‏}‏ والفرق بين الختمين‏:‏ أنه هنا تقدم قوله‏:‏ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وبعده، وجعلوا لله أنداداً، فكان ذلك نصاً على ما فعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك، بجعل الأنداد ناسب أن يحتم بذم من وقع ذلك منه، فجاء إن الإنسان لظلوم كفار‏.‏ وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات، وأطنب فيها، وقال‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏}‏ أي‏:‏ من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ولا على شيء منه، ذكر من تفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضاً على الرجوع إليه، وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما، كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك إطماع لمن آمن به‏.‏ وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق أنه يغفر زلَله السابق ويرحمه، وأيضاً فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان، ذكر ما حصل من المنعم، ومن جنس المنعم عليه، فحصل من المنعم ما يناسبه حالة عطائه وهو الغفران والرحمة، إذ لولاهما لما أنعم عليه‏.‏ وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسبه حالة الإنعام عليه، وهو الظلم والكفران، فكأنه قيل‏:‏ إن صدر من الإنسان ظلم فالله غفور، أو كفران نعمة فالله رحيم، لعلمه يعجز الإنسان وقصوره‏.‏ ودعوى أن هذه الآية منسوخة بآية النحل لا يلتفت إليها، ونقل ذلك السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ‏(‏35‏)‏ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

جنب مخففاً، وأجنب رباعياً لغة نجد، وجنب مشدداً لغة الحجاز، والمعنى‏:‏ منع، وأصله من الجانب‏.‏

‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام‏.‏ رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏‏:‏ مناسبة هذه الآية لما قبلها‏:‏ أنه تعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفراً، وجعلوا لله أنداداً وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين اتخذوا آلهة من دون الله، وكان من نعم الله عليهم إسكانه إياهم حرمه، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه صلوات الله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة، ودعا بأنْ يجنب بنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكنه وذريته في بيته ليعبدوه وحده بالعبادة التي هي أشرف العبادة وهي الصلاة، لينظروا في دين أبيهم، وأنه مخالف لما ارتكبوه من عبادة الأصنام، فيزدجروا ويرجعوا عنها‏.‏ وتقدم الكلام على قوله هنا هذا البلد معرفاً، وفي البقرة منكراً‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ هنا سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال‏:‏ هو بلد مخوف، فاجعله آمناً انتهى‏.‏ ودعا إبراهيم أولاً بما هو على طاعة الله تعالى، وهو كون محل العابد أمناً لا يخاف فيه، إذ يتمكن من عبادة الله تعالى، ثم دعا ثانياً بأن يجنب هو وبنوه من عبادة الأصنام‏.‏ ومعنى واجنبني وبني‏:‏ أدمني وإياهم على اجتناب عبادة الأصنام‏.‏ وأراد بقوله‏:‏ وبنىَّ أولاده، من صلبه الأقرباء‏.‏ وأجابه الله تعالى فجعل الحرم آمناً، ولم يعبد أحد من بنيه الأقرباء لصلبه صنماً‏.‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ وقد سئل، كيف عبدت العرب الأصنام‏؟‏ قال‏:‏ ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً وكانوا ثمانية، إنما كانت لهم حجارة ينصبوها ويقولون‏:‏ حجر، فحيث ما نصبوا حجراً فهو بمعنى البيت، فكانوا يدورن بذلك الحجر ويسمونه الدوار انتهى‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه، ومن حصل في رتبته فكيف يخاف أن يعبد صنماً‏؟‏ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدي بها في الخوف وطلب الخاتمة‏.‏ وكرر النداء استعطافاً لربه تعالى، وذكر سبب طلبه‏:‏ أن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله‏:‏ إنهن أضللن كثيراً من الناس، إذ قد شاهد أباه وقومه يعبدون الأصنام‏.‏ ومعنى أضللنا‏:‏ كنا سبباً لإضلال كثير من الناس، والمعنى‏:‏ أنهم ضلوا بعبادتها، كما تقول‏:‏ فتنتهم الدنيا أي‏:‏ افتتنوا بها، واغتروا بسببها‏.‏ وقرأ الجحدري، وعيسى الثقفي‏:‏ وأجنبني من أجنب، وأنث الأصنام لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث كما تقول‏:‏ الأجذاع انكسرت‏.‏

والإخبار عنه أخبار جمع العاقل المذكر بالواو ومجاز نحو قوله‏:‏ فقد ضلوا كثيراً‏.‏ فمن تبعني أي‏:‏ على ديني وما أنا عليه، فإنه مني‏.‏ جعله لفرط الاختصاص به وملابسته كقوله‏:‏ «من غشنا فليس منا» أي ليس بعض المؤمنين تنبيهاً على تعظيم الغش بحيث هو يسلب الغاش الإيمان، والمعنى‏:‏ أن الغش ليس من أوصاف أهل الإيمان‏.‏ ومن عصاني، هذا فيه طباق معنوي، لأن التبعية طاعة فقوله‏:‏ فإنك غفور رحيم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ومن عصاني فيحادون الشرك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ تغفر لي ما سلف من العصيان إذا بدا لي فيه واستحدث الطاعة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومن عصاني ظاهره بالكفر لمعادلة قوله‏:‏ فمن تبعني فإنه مني، وإذا كان كذلك فقوله‏:‏ فإنك غفور رحيم معناه حين يؤمنوا، لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذلك قال نبي الله عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

الهوى‏:‏ الهبوط بسرعة، قال الشاعر‏:‏

وإذا رميت به الفجاج رأيته *** تهوي مخارمها هوى الأجدل

‏{‏ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون‏}‏‏:‏ كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهاراً للتذلل، والالتجاء إلى الله تعالى‏.‏ وأتى بضمير جماعة المتكلمين، لأنه تقدم ذكره‏.‏ وذكر بنيه في قوله‏:‏ واجنبني وبنيَّ، ومن ذريتي هو إسماعيل ومن ولد منه‏.‏ وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة، فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك، وركب منصرفاً من يومه ذلك، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية‏.‏ وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولاسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره‏.‏ ومِن للتبعيض، لأنّ إسحاق كان في الشام، والوادي ما بين الجبلين، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء، وإنما قال‏:‏ غير ذي زرع، لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقها الماء، وإنما نظر النظر البعيد فقال‏:‏ غير ذي زرع، ولو لم يعلم ذلك من الله تعالى لقال‏:‏ غير ذي ماء، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث وجد الماء، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بواد هو وادي مكة، غير ذي زرع‏:‏ لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله‏:‏ ‏{‏قرآناً عربياً غير ذي عوج‏}‏ بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى‏.‏ واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولاً لقوله‏:‏ لا يكون، وليس هو ماضياً، وهو مكان أبداً الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ عند بيتك المحرم، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ومتى وضع في البقرة، وفي آل عمران‏.‏ ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان أي‏:‏ منع منه، كما سمى بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لكونه لم يزل عزيزاً ممنعاً من الجبابرة، أو لكونه محترماً لا يحل انتهاكه‏.‏ وليقيموا متعلق بأسكنت‏.‏ وربنا دعاء معترض، والمعنى‏:‏ إنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة‏.‏ وقيل‏:‏ هي لام الأمر، دعا لهم بإقامة الصلاة‏.‏ وقال أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ اللام متعلقة بقوله‏:‏ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ليقيموا الصلاة انتهى‏.‏

وهذا بعيد جداً‏.‏ وخصّ الصلاة دون سائر العبادات لأنها أفضلها، أو لأنها سبب لكل خير‏.‏ وقوله‏:‏ ليقيموا بضمير الجمع دلالة على أن الله أعلمه بأن هذا الطفل سيعقب هنالك، ويكون له نسل‏.‏ وأفئدة‏:‏ جمع فؤاد وهي القلوب، سمي القلب فؤاد لإنفاده مأخوذ من فأد، ومنه المفتأد، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم‏.‏ وقال مؤرج الافئدة‏:‏ القطع من الناس بلغة قريش، وإليه ذهب ابن بحر‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لو قال ابراهيم عليه السلام‏:‏ أفئدة الناس، لازدحمت على البيت فارس والروم‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ لحجته اليهود والنصارى‏.‏ والظاهر أنّ من للتبعيض، إذ التقدير‏:‏ أفئدة من الناس‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن تكون مِن للابتداء كقولك‏:‏ القلب مني سقيم يريد قلبي، فكأنه قيل‏:‏ أفئدة ناس، وإنما نكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة لتتناول بعض الأفئدة انتهى‏.‏ ولا يظهر كونها لابتداء الغاية، لأنها ليس لنا فعل يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها، إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة من الناس، وإنما الظاهر في من التبعيض‏.‏ وقرأ هشام‏:‏ أفئدة بياء بعد الهمزة، نص عليه الحلواني عنه وخرج ذلك على الإشباع، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر حمل بعض العلماء هذه القراءة على أنّ هشاماً قرأ بتسهيل الهمزة كالياء، فعبر الراوي عنها بالياء، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضاً من الهمزة، قال‏:‏ فيكون هذا التحريف من جنس التحريف المنسوب إلى من روى عن أبي عمرو‏:‏ بارئكم ويأمركم، ونحوه بإسكان حركة لإعراب، وإنما كان ذلك اختلاساً‏.‏ قال أبو عمرو والداني الحافظ‏:‏ ما ذكره صاحب هذا القول لا يعتمد عليه، لأنّ النقلة عن هشام وأبي عمر وكانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها، وليس يفضي بهم الجهل إلى أن يعتقد فيهم مثل هذا وقرئ آفدة‏:‏ على وزن فاعلة، فاحتمل أن يكون اسم فاعل للحذف من أفد أي دنا وقرب وعجل أي‏:‏ جماعة آفدة، أو جماعات آفدة، وأن يكون جمع ذلك فؤاد، ويكون من باب القلب، وصار بالقلب أأفدة، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفاً كما قالوا‏.‏ في ارآم أأرام، فوزنه أعفلة‏.‏ وقرئ أفدة على وزن فعله، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد وذلك بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها وهو الفاء، وإن كان تسهيلها بين بين هو الوجه، وأن يكون اسم فاعل من أفد كما تقول‏:‏ فرح فهو فرح‏.‏ وقرأت أم الهيثم‏:‏ أفودة بالواو المكسورة بدل الهمزة‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ وهو جمع وفد، والقراءة حسنة‏:‏ لكني لا أعرف هذه المرأة، بل ذكرها أبو حاتم انتهى‏.‏ أبدل الهمزة في فؤاد بعد الضمة كما أبدلت في جون، ثم جمع فأقرها في الجمع إقرارها في المفرد‏.‏ أوهو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح، وقلب إذ الأصل أوفده‏.‏

وجمع فعل على أفعلة شاذ نحو‏:‏ نجد وأنجدة، ووهى وأوهية‏.‏ وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ إفادة على وزن إشارة‏.‏ ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا‏:‏ اشاح في وشاح، فالوزن فعالة أي‏:‏ فاجعل ذوي وفادة‏.‏ ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة، أو ذوي إفادة، وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تهوي إليهم أي تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً، ولما ضمن تهوي معنى تميل عداه بإلى، وأصله أن يتعدى باللام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

حتى إذا ما هوت كف الوليد بها *** طارت وفي كفه من ريشها تبك

ومثال ما في الآية قول الشاعر‏:‏

تهوى إلى مكة تبغي الهدى *** ما مؤمن الجن ككفارها

وقرأ مسلمة بن عبد الله‏:‏ تهوي بضم التاء مبنياً للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة التعدية من هوى اللازمة، كأنه قيل‏:‏ يسرع بها إليهم‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب، وزيد بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومجاهد‏:‏ تهوى مضارع هوى بمعنى أحب، ولما ضمن معنى النزوع والميل عدى بإلى‏.‏ وارزقهم من الثمرات مع سكانهم وادياً ما فيه شيء منها بأن يجلب إليهم من البلاد كقوله‏:‏ ‏{‏يجبى إليه ثمرات كل شيء‏}‏ وروي عن مسلم بن محمد الطائفي أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة الثمرات، بعث الله جبريل عليه السلام فاقتلع بجناحه قطعه من فلسطين‏.‏ وقيل‏:‏ من الأردن فجاء بها، وطاف بها حول البيت سبعاً، ووضعها قريب مكة فهي الطائف‏.‏ وبهذه القصة سميت وهي موضع ثقيف، وبها أشجار وثمرات‏.‏ وروي نحو منه عن ابن عباس‏.‏ لعلهم يشكرون‏.‏ قال الزمخشري النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد بباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء، لا جرم أنّ الله عز وجل أجاب دعوة إبراهيم فجعله حرماً آمناً يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف، وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله‏.‏ بواد غير ذي زرع وهي‏:‏ اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏38‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏39‏)‏ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏(‏40‏)‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏(‏41‏)‏‏}‏

كرر النداء للتضرع والالتجاء، ولا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم، وبين إضافته إلى جمع المتكلم، وما نخفي وما نعلن عام فيما يخفونه وما يعلنونه‏.‏ وقيل‏:‏ ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ ما نخفي من كآبة الافتراق، وما نعلن مما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع‏:‏ إلى من تكلنا‏؟‏ قال‏:‏ إلى الله أكلكم‏.‏ قالت‏:‏ آلله أمرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالت‏:‏ لا نخشى تركتنا إلى كافٍِ‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، من كلام إبراهيم لاكتناف ما قبله وما بعده بكلام إبراهيم‏.‏ لما ذكر أنه تعالى عمم ما يخفى هو ومن كنى عنه، تمم جميع الأشياء، وأنها غير خافية عنه تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ وما يخفى الآية من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك يفعلون‏}‏ والظاهر أنْ هذه الجمل التي تكلم بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم تقع منه في زمان واحد، وإنما حكى الله عنه ما وقع في أزمان مختلفة، يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجوداً حالة دعائه، إذ ترك هاجر والطفل بمكة‏.‏ فالظاهر أنّ حمده الله تعالى على هبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق، وعلى الكبر يدل على مطلق الكبر، ولم يتعرض لتعيين المدة التي وهب له فيها ولداه‏.‏ وروي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إسماعيل لأربع وستين، وإسحاق لتسعين‏.‏ وعن ابن جبير‏:‏ لم يولد له إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة‏.‏ وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة فيها بهبة الولد أعظم من حيث أنّ الكبر مظنة اليأس من الولد، فإنّ مجيء الشيء بعد الإياس أحلى في النفس وأبهج لها‏.‏ وعلى الكبر في موضع الحال لأنه قال‏:‏ وأنا كبير، وعلى علي بابها من الاستعلاء لكنه مجاز، إذ الكبر معنى لا جرم يتكون، وكأنه لما أسنّ وكبر صار مستعلياً على الكبر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ على في قوله على الكبر بمعنى مع، كقوله‏:‏

إني على ما ترين من كبري *** أعلم من حيث يؤكل الكتف

وكنى بسميع الدعاء عن الإجابة والتقبل، وكان قد دعا الله أن يهبه ولداً بقوله‏:‏ ‏{‏رب هب لي من الصالحين‏}‏ فحمد الله على ما وهبه من الولد وأكرمه به من إجابة دعائه‏.‏ والظاهر إضافة سميع إلى المفعول وهو من إضافة المثال الذي على وزن فعيل إلى المفعول، فيكون إضافة من نصب، ويكون ذلك حجة على إعمال فعيل الذي للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه، وقد خالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه‏.‏

وفي إعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول، وفعال، ومفعال، وفعل، وهذا مذكور في علم النحو‏.‏ ويمكن أن يقال في هذا ليس ذلك إضافة من نصب فيلزم جواز إعماله، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو‏:‏ هذا ضارب زيد أمس‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي، والمراد‏:‏ سماع الله انتهى‏.‏ وهو بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة، والصفة متعدية، ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي الفارسي حيث لا يكون لبس‏.‏ وأما هنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر أنه من إضافة المثال للمفعول، لا من إضافته إلى الفاعل‏.‏ وإنما أجاز ذلك الفارسي في مثل‏:‏ زيد ظالم العبيد إذا علم أنّ له عبيداً ظالمين‏.‏ ودعاؤه بأنْ يجعله مقيم الصلاة وهو مقيمها، إنما يريد بذلك الديمومة‏.‏ ومن ذريتي، من للتبعيض، لأنه أعلم أنّ من ذريته من يكون كافراً، أو من يهمل إقامتها وإن كان مؤمناً‏.‏ وقرأ طلحة، والأعمش‏:‏ دعاء ربنا بغير ياء‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ بياء ساكنة في الوصل، وأثبتها بعضهم في الوقف‏.‏ وروى ورش عن نافع‏:‏ إثباتها في الوصل‏.‏ والظاهر أنّ إبراهيم سأل المغفرة لأبويه القريبين، وكانت أمه مؤمنة، وكان والده لم ييأس من إيمانه ولم تتبين له عداوة الله، وهذا يتمشى إذا قلنا‏:‏ إن هذه الأدعية كانت في أوقات مختلفة، فجمع هنا أشياء مما كان دعا بها‏.‏ وقيل‏:‏ أراد أمه، ونوحاً عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ آدم وحواء‏.‏ والأظهر القول الأول‏.‏ وقد جاء نصاً دعاؤه لأبيه بالمغفرة في قوله‏:‏ ‏{‏واغفر لأبي إنه كان من الضالين‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ هو من تجويزات العقل، لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف انتهى‏.‏ وهو في ذلك موافق لأهل السنة، مخالف لمذهب الاعتزال‏.‏ وقرأ الحسين بن علي، ومحمد، وزيد‏:‏ ربنا على الخبر‏.‏ وابن يعمر والزهري والنخعي‏:‏ ولولديّ بغير ألف وبفتح اللام يعني‏:‏ إسماعيل وإسحاق، وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة، وقال‏:‏ إنّ في مصحف أبيَّ بن كعب‏:‏ ولأبوي، وعن يحيى بن يعمر‏:‏ ولولدي بضم الواو وسكون اللام، فاحتمل أنْ يكون جمع ولد كأسد في أسد، ويكون قد دعا لذريته، وأن يكون لغة في الولد‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فليت زياداً كان في بطن أمه *** وليت زياداً كان ولد حمار

كما قالوا‏:‏ العدم والعدم‏.‏ وقرأ ابن جبير‏:‏ ولوالدي بإسكان الياء على الإفراد كقوله‏:‏ واغفر لأبي، وقيام الحساب مجاز‏.‏ عن وقوعه وثبوته كما يقال‏:‏ قامت الحرب على ساق، أو على حذف مضاف أي‏:‏ أهل الحساب كما قال‏:‏ ‏{‏يقوم الناس لرب العالمين‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‏(‏42‏)‏ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‏(‏43‏)‏‏}‏

شخص البصر أحد النظر، ولم يستقرّ في مكانه‏.‏ المهطع‏:‏ المسرع في مشيه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

بمهطع سرح كأن عنانه *** في رأس جذع من أراك مشذب

وقال عمران بن حطان‏:‏

إذا دعانا فأهطعنا لدعوته *** داع سميع فلبونا وساقونا

وقال أبو عبيدة‏:‏ قد يكون الأهطاع الإسراع وإدامة النظر‏.‏ المقنع‏:‏ هو الرافع رأس المقبل ببصره على ما بين يديه، قاله ابن عرفة والقتبي‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

يباكرن العصاة بمقنعات *** نواجذهن كالحدإ الوقيع

يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر، ويقال‏:‏ أقنع رأسه نكسه وطأطأه، فهو من الأضداد‏.‏ قال المبرد‏:‏ وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ منه قنع الرجل إذا رضي، كأنه رفع رأسه عن السؤال‏.‏ وفم مقنع معطوفة أسنانه إليه داخلاً، ورجل مقنع بالتشديد عليه بيضة الرأس معروف، ويجمع في القلة على أرؤس‏.‏ الطرف‏:‏ العين‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها

ويقال‏:‏ طرف الرجل طبق جفنه على الآخر، وسمي الجفن طرفاً لأنه يكون فيه ذلك‏.‏ الهواء‏:‏ ما بين السماء والأرض، وهو الخلاء الذي لم تشغله الأجرام الكثيفة، واستعير للجبان فقيل‏:‏ قلب فلان هواء‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

كأن الرحل منها فوق صعل *** من الظلمات جؤجؤه هواء

‏{‏ولا تحسبن الله غافلاًً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءُوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء‏}‏‏:‏ الخطاب بقوله‏:‏ ولا تحسبن، للسامع الذي يمكن منه حسبان مثل هذا لجهله بصفات الله، لا للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه مستحيل ذلك في حقه‏.‏ وفي هذه الآية وعيد عظيم للظالمين، وتسلية للمظلومين‏.‏ وقرأ طلحة‏:‏ ولا تحسب بغير نون التوكيد، وكذا فلا تحسب الله مخلف وعده‏.‏ والمراد بالنهي عن حسبانه غافلاً الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏ يريد الوعيد‏.‏ ويجوز أن يراد‏:‏ ولا تحسبنه، يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير‏.‏ وقرأ السلمي والحسن، والأعرج، والمفضل، عن عاصم وعباس بن الفضل، وهارون العتكي، ويونس بن حبيب، عن أبي عمر‏:‏ ونؤخرهم بنون العظمة، والجمهور بالياء أي‏:‏ يؤخرهم الله‏.‏ مهطعين مسرعين، قاله‏:‏ ابن جبير وقتادة‏.‏ وذلك بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف‏.‏ وقال ابن عباس، وأبو الضحى‏:‏ شديدي النظر من غير أنْ يطرقوا‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ غير رافعي رؤوسهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مد يمين النظر‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ مقبلين للإصغاء، وأنشد‏:‏

بدجلة دارهم ولقد أراهم *** بدجلة مهطعين إلى السماع

وقال الحسن‏:‏ مقنعي رؤوسهم وجوه الناس يومئذ إلى السماء، لا ينظر أحد إلى أحد انتهى‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ هواء صفر من الخير خاوية منه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ جوف لا عقول لهم‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد‏:‏ خربة خاوية ليس فيها خير ولا عقل‏.‏ وقال سفيان‏:‏ خالية إلا من فزع ذلك اليوم كقوله‏:‏ وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً، أي‏:‏ إلا من هم موسى‏.‏ وهواء تشبيه محض، لأنها ليست بهواء حقيقة، ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة، فهي منحرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه، وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور، وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي حناجرهم، فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب‏.‏ وحصول هذه الصفات الخمس للظالمين قبل المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله‏:‏ يوم يقوم الحساب‏.‏ وقيل‏:‏ عند إجابة الداعي، والقيام من القبور‏.‏ وقيل‏:‏ عند ذهاب السعداء إلى الجنة، والأشقياء إلى النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ‏(‏44‏)‏ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويوم منصوب على أنه مفعول ثان لا نذر، ولا يصح أن يكون ظرفاً، لأنّ ذلك اليوم ليس بزمان للإنذار، وهذا اليوم هو يوم القيامة والمعنى‏:‏ وأنذر الناس الظالمين، ويبين ذلك قوله‏:‏ فيقول الذين ظلموا، لأن المؤمنين يبشرون ولا ينذرون‏.‏ وقيل‏:‏ اليوم يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات، ولقاء الملائكة بلا بشرى كقوله‏:‏ ‏{‏لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّق‏}‏ ومعنى التأخر إلى أجل قريب الرد إلى الدنيا قاله الضحاك، إذ الإمهال إلى أمد وحد من الزمان قريب قاله السدي، أي‏:‏ لتدارك ما فرطوا من إجابة الدعوة، واتباع الرسل‏.‏ أو لم تكونوا هو على إضمار القول والظاهر أنّ التقدير فيقال لهم، والقائل الملائكة، أو القائل الله تعالى‏.‏ يوبخون بذلك، ويذكرون مقالتهم في إنكار البعث، وإقسامهم على ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت‏}‏ ومعنى ما لكم من زوال، من الأرض بعد الموت أي‏:‏ لا نبعث من القبور‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ إنّ هذا القول يكون منهم وهم في النار، ويرد عليهم‏:‏ أو لم تكونوا، ومعناه التوبيخ والتقريع‏.‏ وقال الزمخشري أو لم تكونوا أقسمتم على إرادة القول، وفيه وجهان‏:‏ أن يقولوا ذلك بطراً وأشراً، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه‏.‏ وأن يقولوا بلسان الحال حيث بنوا شديداً، وأملوا بعيداً‏.‏ وما لكم جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله‏:‏ أقسمتم، ولو حكى لفظ المقسمين لقيل‏:‏ ما لنا من زوال، والمعنى‏:‏ أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزولون بالموت والفناء، وقيل‏:‏ لا تنتقلون إلى دار أخرى انتهى‏.‏ فجعل الزمخشري أو لم تكونوا محكياً بقولهم، وهو مخالف لما قد بيناه من أنه يقال لهم ذلك، وقوله‏:‏ لا يزولون بالموت والفناء ليس بجيد، لأنهم مقرون بالموت والفناء‏.‏ وقوله هو قول مجاهد‏.‏ وسكنتم إن كان من السكون، فالمعنى‏:‏ أنهم قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين بسيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدثونها بما لقي الظالمون قبلهم‏.‏ وإن كان من السكنى، فإنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصل تعديته بفي كما يقال‏:‏ أقام في الدار وقر فيها، ولكنه لما أطلق على سكون خاص تصرف فيه، فقيل‏:‏ سكن الدار كما قيل‏:‏ تبوأها، وتبين لكم بالخبر وبالمشاهدة ما فعلنا بهم من الهلاك والانتقام‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وتبين فعلاً ماضياً، وفاعله مضمر يدل عليه الكلام أي‏:‏ وتبين لكم هو أي حالهم، ولا يجوز أن يكون الفاعل كيف، لأنّ كيف إنما تأتي اسم استفهام أو شرط، وكلاهما لا يعمل فيه ما قبله، إلا ما روي شاذاً من دخول على علي كيف في قولهم‏:‏ على كيف تبيع الأحمرين، وإلى في قولهم‏:‏ أنظر إلى كيف تصنع، وإنما كيف هنا سؤال عن حال في موضع نصب بفعلنا‏.‏ وقرأ السلمي فيما حكى عنه أبو عمرو الداني‏:‏ ونبين بضم النون، ورفع النون الأخيرة مضارع بين، وحكاها صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك على إضمار ونحن نبين، والجملة حالية‏.‏ وقال المهدوي عن السلمي‏:‏ إنه قرأ كذلك، إلا أنه جزم النون عطفاً على أو لم تكونوا أي‏:‏ ولم نبين فهو مشارك في التقرير‏.‏ وضربنا لكم الأمثال أي‏:‏ صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 52‏]‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‏(‏46‏)‏ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏48‏)‏ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏49‏)‏ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ‏(‏50‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏51‏)‏ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

المقرّن‏:‏ المشدود في القرن، وهو الحبل‏.‏ الصفد‏:‏ الغل، والقيد يقال‏:‏ صفده صفداً قيده، والاسم الصفد، وفي التكثير صفده مشدداً‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وأبقى بالملوك مصفدينا *** وأصفدته‏:‏ أعطيته‏.‏ وقيل‏:‏ صفد وأصفد معاً في القيد والإعطاء‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد *** أي‏:‏ بالعطاء‏.‏ وسمي العطاء صفداً لأنه يقيده ويعبد‏.‏ السربال‏:‏ القميص، يقال‏:‏ سربلته فتسربل‏.‏ القطران‏:‏ ما يحلب من شجر الابهل فيطبخ، وتهنأ به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحره وحدته، وهو أقبل الأشياء اشتعالاً، ويقال فيه قطران بوزن سكران، وقطران بوزن سرحان‏.‏

‏{‏وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏.‏ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام‏.‏ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار‏.‏ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد‏.‏ سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار‏.‏ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب‏.‏ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب‏}‏‏:‏ الظاهر أنّ الضمير في مكروا عائد على المخاطبين في قوله‏:‏ ‏{‏أو لم تكونوا أقسمتم من قبل‏}‏ أي مكروا بالشرك بالله، وتكذيب الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على قوم الرسول كقوله‏:‏ ‏{‏وأنذر الناس‏}‏ أي‏:‏ وقد مكر قومك يا محمد، وهو الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏}‏ الآية ومعنى مكرهم أي‏:‏ المكر العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، والظاهر أنّ هذا إخبار من الله لنبيه بما صدر منهم في الدنيا، وليس مقولاً في الآخرة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة للظلمة الذين سكن في منازلهم‏.‏ وعند الله مكرهم أي‏:‏ علم مكرهم فهو مطلع عليه، فلا ينفذ لهم فيه قصداً، ولا يبلغهم فيه أملاً أو جزاء مكرهم، وهو عذابه لهم‏.‏ والظاهر إضافة مكر وهو المصدر إلى الفاعل، كما هو مضاف في الأول إليه كأنه قيل‏:‏ وعند الله ما مكروا أي مكرهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى‏:‏ وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه، يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون انتهى‏.‏ وهذا لا يصح إلا إن كان مكر يتعدى بنفسه كما قال هو، إذ قدر يمكرهم به، والمحفوظ أنّ مكر لا يتعدى إلى مفعول به بنفسه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏}‏ وتقول‏:‏ زيد ممكور به، ولا يحفظ زيد ممكور بسبب كذا‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ وإن كان بالنون‏.‏ وقرأ عمرو، وعلي، وعبد الله، وأبيّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو إسحاق السبيعي، وزيد بن علي‏:‏ وإن كاد بدال مكان النون لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية، وروي كذلك عن ابن عباس‏.‏ وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن وثاب، والكسائي كذلك، إلا أنهم قرأُوا وإن كان بالنون، فعلى هاتين القراءتين تكون إنْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، وذلك على مذهب البصريين‏.‏

وأما على مذهب الكوفيين فإن نافية، واللام بمعنى إلا‏.‏ فمن قرأ كاد بالدال فالمعنى‏:‏ أنه يقرب زوال الجبال بمكرهم، ولا يقع الزوال‏.‏ وعلى قراءة كان بالنون، يكون زوال الجبال قد وقع، ويكون في ذلك تعظيم مكرهم وشدته، وهو بحيث يزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها‏.‏ ويحتمل أن يكون معنى لتزول ليقرب زوالها، فيصير المعنى كمعنى قراءة كاد‏.‏ ويؤيد هذا التأويل ما ذكره أبو حاتم من أنّ في قراءة أبيّ‏:‏ ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال، وينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير لمخالفتها لسواد المصحف المجمع عليه‏.‏ وقرأ الجمهور وباقي السبعة‏:‏ وإن كان بالنون مكرهم لتزول بكسر اللام، ونصب الأخيرة‏.‏ ورويت هذه القراءة عن علي، واختلف في تخريجها‏.‏ فعن الحسن وجماعة أنّ إنْ نافية، وكان تامة، والمعنى‏:‏ وتحقير مكرهم، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها، ويؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ‏:‏ وما كان بما النافية‏:‏ لكنّ هذا التأويل، وما روي عن ابن مسعود من قراءة وما بالنفي، يعارض ما تقدم من القراءات، لأنّ فيها تعظيم مكرهم، وفي هذا تحقيره‏.‏ ويحتمل على تقدير أنها نافية أن تكون كان ناقصة، واللام لام الجحود، وخبر كان على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين‏:‏ أهو محذوف‏؟‏ أو هو الفعل الذي دخلت عليه اللام‏؟‏ وعلى أنّ إنْ نافية وكان ناقصة، واللام في لتزول متعلقة بفعل في موضع خبر كان، خرجه الحوفي‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، وإن عظم مكرهم وتتابع في الشدة بضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته أي‏:‏ وإن كان مكرهم مستوٍ لإزالة الجبال معداً لذلك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم أي‏:‏ وإن كان شديداً بما يفعل ليذهب به عظام الأمور انتهى‏.‏ وعلى تخريج هذين تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وكان هي الناقصة‏.‏ وعلى هذا التخريج تتفق معاني القراءات أو تتقارب، وعلى تخريج النفي تتعارض كما ذكرنا‏.‏ وقرئ لتزول بفتح اللام الأولى ونصب الثانية، وذلك على لغة من فتح لام كي‏.‏ والذي يظهر أنّ زوال الجبال مجاز ضرب مثلاً لمكر قريش، وعظمه والجبال لا تزول، وهذا من باب الغلو والإيغال والمبالغة في ذم مكرهم‏.‏ وأما ما روي أن جبلاً زال بحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذباً مات، فحملها للحلف، فمكرت بأن رمت نفسها عن الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه عن الدابة، فأركبها زوجها وذلك الرجل، وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما، فنزلت سالمة، وأصبح الجبل قد اندك، وكانت المرأة من عدنان‏.‏

وما روي من قصة النمرود أو بخت نصّر، واتخاذ الأنسر وصعودهما عليها إلى قرب السماء في قصة طويلة‏.‏ وما تأول بعضهم أنه عبر بالجبال عن الإسلام، والقرآن لثبوته ورسوخه، وعبر بمكرهم عن اختلافهم فيه من قولهم‏:‏ هذا سحر هذا شعر هذا إفك، فأقوال ينبو عنها ظاهر اللفظ، وبعيد جداً قصة الأنسر‏.‏ والنهي عن الحسبان كهو في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الله غافلاً‏}‏ وأطلق الحسبان على الأمر المتحقق هنا كما قال الشاعر‏:‏

فلا تحسبن أني أضل منيتي *** فكل امرئ كأس الحِمام يذوق

وهذا الوعد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا‏}‏ ‏{‏كتب الله لأغلبن أنا ورسلي‏}‏ وقرأ الجمهور بإضافة مخلف إلى وعده، ونصب رسله‏.‏ واختلف في إعرابه فقال الجمهور‏.‏ الفراء، وقطرب، والحوفي، والزمخشري، وابن عطية، وأبو البقاء‏:‏ إنه مما أضيف فيه اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم‏:‏ هذا معطي درهم زيداً، لما كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل واحد منهما، فينتصب ما تأخر‏.‏ وأنشد بعضهم نظيراً له قول الشاعر‏:‏

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه *** وسائره باد إلى الشمس أجمع

وقال أبو البقاء‏:‏ هو قريب من قولهم‏:‏ يا سارق الليلة أهل الدار‏.‏ وقال الفراء وقطرب‏:‏ لما تعدى الفعل إليهما جميعاً لم يبال بالتقديم والتأخير‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ هلا قيل مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني على الأول‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً لقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏ ثم قال‏:‏ رسله، ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته‏؟‏ انتهى‏.‏ وهو جواب على طريقة الاعتزال في أنّ وعد الله واقع لا محالة، فمن وعده بالنار من العصاة لا يجوز أن يغفر له أصلاً‏.‏ ومذهب أهل السنة أنّ كل ما وعد من العذاب للعصاة المؤمنين هو مشروط إنفاذه بالمشيئة‏.‏ وقيل‏:‏ مخلف هنا متعد إلى واحد كقوله‏:‏ ‏{‏لا يخلف الميعاد‏}‏ فأضيف إليه، وانتصب رسله بوعده إذ هو مصدر ينحل بحرف مصدري والفعل كأنه قال‏:‏ مخلف ما وعد رسله، وما مصدرية، لا بمعنى الذي‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ مخلف وعده رسله بنصب وعده، وإضافة مخلف إلى رسله، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهو كقراءة‏.‏ قتل أولادهم شركائهم، وتقدم الكلام عليه مشبعاً في الأنعام‏.‏ وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى، وأنه مما تعدى فيه مخلف إلى مفعولين‏.‏ إنّ الله عزيز لا يمتنع عليه شيء ولا يغالب ذو انتقام من الكفرة لا يعفو عنهم‏.‏ والتبديل يكون في الذات أي‏:‏ تزول ذات وتجيء أخرى‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏بدلناهم جلوداً غيرها‏}‏ ‏{‏وبدلناهم بجنتيهم جنتين‏}‏ ويكون في الصفات كقولك‏:‏ بدلت الحلقة خاتماً، فالذات لم تفقد لكنها انتقلت من شكل إلى شكل‏.‏

واختلفوا في التبديل هنا، أهو في الذات، أو في الصفات، فقال ابن عباس‏:‏ تمد كما يمد الأديم، وتزال عنها جبالها وآكامها وشجرها، وجميع ما فيها حتى تصير مستوية لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وتبدل السموات بتكوير شمسها، وانتثار كواكبها، وانشقاقها، وخسوف قمرها‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ تبدل الأرض بأرض كالفضة نقية لم يسفك فيها دم، ولم يعمل فيها خطيئة‏.‏ وقال على تلك الأرض من فضة والجنة من ذهب‏.‏ وقال محمد بن كعب وابن جبير‏:‏ هي أرض من خبز يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم، وجاء هذا مرفوعاً‏.‏ وقيل‏:‏ تصير ناراً والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها‏.‏ وقال أبي‏:‏ تصير السموات حقاباً‏.‏ وقيل‏:‏ تبديلها طيها‏.‏ وقيل‏:‏ مرة كالمهل، ومرة وردة كالدهان، قاله ابن الأنباري‏.‏ وقيل‏:‏ بانشقاقها فلا تظل‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إنّ الله يبدل الأرض بأرض عفراء بيضاء كأنها قرصة نقي» وفي كتاب الزمخشري وعن علي‏:‏ تبدل أرضاً من فضة، وسموات من ذهب‏.‏ وعن الضحاك‏:‏ أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد‏:‏

وما الناس بالناس الذين عهدتهم *** ولا الدار بالدار التي كنت تعلم

قال ابن عطية‏:‏ وسمعت من أبي رضي الله عنه روى أن التبديل يقع في الأرض، ولكنْ تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه، وفريق يكونون على فضة إن صح السند بها، وفريق الكفرة يكونون على نار ونحو هذا، وكله واقع تحت قدرة الله تعالى‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش، وفيه أنهم ذلك الوقت على الصراط» وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إن كتاب الفجار لفي سجين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين‏}‏ انتهى‏.‏ وكلامه هذا يدل على أنّ الجنة والنار غير مخلوقتين، وظاهر القرآن والحديث أنهما قد خلقتا، وصح في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع عليهما، ولا يمكن أن يطلع عليهما حقيقة إلا بعد خلقهما‏.‏

وبرزوا‏:‏ أي ظهروا‏.‏ وألا يواريهم بناء ولا حصن، وانتصاب يوم على أنه بدل من يوم يأتيهم قاله الزمخشري، أو معمولا لمخلف وعده‏.‏ وإن وما بعدها اعتراض قاله الحوفي‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ لا يجوز أن يكون ظرفاً فالمخلف ولا لوعده، لأنّ ما قبل أنْ لا يعمل فيما بعدها، ولكن جوز أن يلحق من معنى الكلام ما يعمل في الظرف أي‏:‏ لا يخلف وعده يوم تبدل انتهى‏.‏ وإذا كان إن وما بعدها اعتراضاً، لم يبال أنه فصلاً بين العامل والمعمول، أو معمولاً لانتقام قاله‏:‏ الزمخشري، والحوفي، وأبو البقاء، أولاً ذكر قاله أبو البقاء‏.‏

وقرئ‏:‏ نبدل بالنون الأرض بالنصب، والسموات معطوف على الأرض، وثم محذوف أي‏:‏ غير السموات، حذف لدلالة ما قبله عليه‏.‏ والظاهر استئناف‏.‏ وبرزوا‏.‏ وقال أبو البقاء يجوز أن يكون حالاً من الأرض، وقد معه مزادة‏.‏ ومعنى لله‏:‏ لحكم الله، أو لموعوده من الجنة والنار‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ وبرزوا بضم الباء وكسر الراء مشددة جعله مبنياً للمفعول على سبيل التكثير بالنسبة إلى العالم وكثرتهم، لا بالنسبة إلى تكرير الفعل‏.‏ وجيء بهذين الوصفين وهما‏:‏ الواحد وهو الواحد الذي لا يشركه أحد في ألوهيته، ونبه به على أنّ آلهتهم في ذلك اليوم لا تنفع‏.‏ والقهار وهو الغالب لكل شيء، وهذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن الملك اليوم لله الواحد القهار‏}‏ وترى المجرمين يومئذ يوم إذ تبدل، وبرزوا مقرنين مشدودين في القرن أي‏:‏ مقرون بعضهم مع بعض في القيود والأغلال، أو مع شياطينهم، كل كافر مع شيطانه في غل أو تقرن أيديهم إلى أرجلهم مغللين‏.‏ والظاهر تعلق في الأصفاد بقوله‏:‏ مقرنين أي‏:‏ يقرنون في الأصفاد‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمقرنين، وفي موضع الحال، فيتعلق بمحذوف كأنه قيل‏:‏ مستقرين في الأصفاد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ما في جهنم واد، ولا مفازة، ولا قيد، ولا سلسلة، إلا اسم صاحبه مكتوب عليه‏.‏

وقرأ علي، وأبو هريرة، وابن عباس، وعكرمة، وابن جبير، وابن سيرين، والحسن، بخلاف عنه‏.‏ وسنان بن سلمة بن المحنق، وزيد بن علي، وقتادة، وأبو صالح، والكلبي، وعيسى الهمداني، وعمرو بن فائد، وعمرو بن عبيد من قطر بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء، أنّ اسم فاعل من أني صفة لقطر‏.‏ قيل‏:‏ وهو القصدير، وقيل‏:‏ النحاس‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ليس بالقطران، ولكنه النحاس يصير بلونه‏.‏ والآني الذائب الحار الذي قد تناهى حره‏.‏ قال الحسن‏:‏ قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت، فتناهى حره‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي آن أن يعذبوا به يعني‏:‏ حان تعذيبهم به‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ومن شأنه‏.‏ أي‏:‏ القطران، أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به، وهو أسود اللون منتن الريح، فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص، لتجتمع عليهم الأربع‏:‏ لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح‏.‏ على أنّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين‏.‏ وكل ما وعده الله، أو أوعد به في الآخرة، فبينه وبين ما يشاهده من جنسه ما لا يقادر قدره، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه انتهى‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب‏:‏ من قطران بفتح القاف وإسكان الطاء، وهو في شعر أبي النجم قال‏:‏ لبسنه القطران والمسوحا‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ وتغشى وجوههم بالنصب، وقرئ بالرفع، فالأول على نحو قوله‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ فهي على حقيقة الغشيان، والثانية على التجوز، جعل ورود الوجه على النار غشياناً‏.‏ وقرئ‏:‏ وتغشى وجوههم بمعنى تتغشى، وخص الوجوه هنا‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة، ويوم يسحبون في النار على وجوههم‏}‏ لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه كالقلب في باطنه، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏تطلع على الأفئدة‏}‏ وليجزي متعلق بمحذوف تقديره‏:‏ يفعل بالمجرمين ما يفعل، ليجزي كل نفس أي‏:‏ مجرمة بما كسبت، أو كل نفس من مجرمة ومطيعة‏:‏ لأنه إذا عاقبت المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم، قاله الزمخشري‏.‏ ويظهر أنها تتعلق بقوله‏:‏ وبرزوا أي‏:‏ الخلق كلهم، ويكون كل نفس عاماً أي‏:‏ مطيعة ومجرمة، والجملة من قوله‏:‏ وترى، معترضة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ اللام متعلقة بفعل مضمر تقديره‏:‏ فعل هذا، أو أنفذ هذا العقاب على المجرمين ليجزي في ذلك المسيء على إساءته انتهى‏.‏ والإشارة بهذا إلى ما ذكر به تعالى من قوله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الله غافلاً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سريع الحساب‏}‏ وقيل‏:‏ الإشارة إلى القرآن، وقيل‏:‏ إلى السورة‏.‏ ومعنى بلاغ كفاية في الوعظ والتذكير، ولينذروا به‏.‏ قال الماوردي‏:‏ الواو زائدة، وعن المبرد‏:‏ هو عطف مفرد أي‏:‏ هذا بلاغ وإنذار انتهى‏.‏ وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب‏.‏ وقيل‏:‏ هو محمول على المعنى أي‏:‏ ليبلغوا ولينذروا‏.‏ وقيل‏:‏ اللام لام الأمر‏.‏ قال بعضهم‏:‏ وهو حسن لولا قوله‏:‏ وليذكر، فإنه منصوب لا غير انتهى‏.‏ ولا يخدش ذلك، إذ يكون وليذكر ليس معطوفاً على الأمر، بل يضمر له فعل يتعلق به‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ المعنى هذا بلاغ للناس، وهو لينذروا به انتهى‏.‏ فجعله في موضع رفع خبراً لهو المحذوفة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولينذروا معطوف على محذوف أي‏:‏ لينصحوا ولينذروا به بهذا البلاغ انتهى‏.‏ وقرأ مجاهد، وحميد‏:‏ بتاء مضمومة وكسر الذال، كان البلاغ العموم، والإنذار للمخاطبين‏.‏ وقرأ يحيى بن عمارة‏:‏ الذراع عن أبيه، وأحمد بن زيد بن أسيد السلمي‏:‏ ولينذروا بفتح الياء والذال، مضارع نذر بالشيء إذا علم به فاستعد له‏.‏ قالوا‏:‏ ولم يعرف لهذا الفعل مصدر، فهو مثل عسى وغيره مما استعمل من الأفعال ولم يعرف له أصل‏.‏ وليعلموا لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعاهم ذلك إلى النظر، فيتوصلون إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، إذ الخشية أصل الخير‏.‏ وليذكر أي‏:‏ يتعظ ويراجع نفسه بما سمع من المواعظ‏.‏ وأسند التذكر والاتعاظ إلى من له لب، لأنهم هم الذين يجدي فيهم التذكر‏.‏ وقيل‏:‏ هي في أبي بكر الصديق‏.‏ وناسب مختتم هذه السورة مفتتحها، وكثيراً ما جاء في سور القرآن، حتى أنّ بعضهم زعم أن قوله‏:‏ ولينذروا به معطوف على قوله‏:‏ لتخرج الناس‏.‏

سورة الحجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏2‏)‏ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ‏(‏4‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها‏:‏ أنه تعالى لما ذكر في آخر السورة قبلها أشياء من أحوال القيامة من تبديل السموات والأرض، وأحوال الكفار في ذلك اليوم، وأنّ ما أتى به هو على حسب التبليغ والإنذار، ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس، وأحوال الكفرة، وودادتهم لو كانوا مسلمين‏.‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ الكتاب هنا ما نزل من الكتب قبل القرآن، فعلى قولهما تكون تلك إشارة إلى آيات الكتاب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يراد بالكتاب القرآن، وعطفت الصفة عليه، ولم يذكر الزمخشري إلا أن تلك الإشارة لما تضمنته السورة من الآيات قال‏:‏ والكتاب والقرآن المبين السورة، وتنكير القرآن للتفخيم، والمعنى‏:‏ تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً، وآي قرآن مبين كأنه قيل‏:‏ والكتاب الجامع للكمال والغرابة في الشأن، والظاهر أنّ ما في ربما مهيئة، وذلك أنها من حيث هي حرف جر لا يليها إلا الأسماء، فجيء بما مهيئة لمجيء الفعل بعدها‏.‏ وجوزوا في ما أنْ تكون نكرة موصوفة، ورب جازة لها، والعائد من جملة الصفة محذوف تقديره‏:‏ رب شيء يوده الذين كفروا‏.‏ ولو كانوا مسلمين بدل من ما على أنّ لو مصدرية‏.‏ وعلى القول الأول تكون في موضع نصب على المفعول ليود، ومن لا يرى أنْ لو تأتي مصدرية جعل مفعول يود محذوفاً‏.‏ ولو في لو كانوا مسلمين حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجواب لو محذوف أي‏:‏ ربما يود الذين كفروا الإسلام لو كانوا مسلمين لسروا بذلك وخلصوا من العذاب، ولما كانت رب عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى ودّ، لما كان المستقبل في إخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي، فكأنه قيل‏:‏ ود، وليس ذلك بلازم، بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة إلى دخولها على الماضي‏.‏ ومما وردت فيه للمستقبل قول سليم القشيري‏:‏

ومعتصم بالجبن من خشية الردى *** سيردي وغاز مشفق سيؤب

وقول هند أم معاوية‏:‏

يا رب قائلة غداً *** يا لهف أم معاوية

وقول جحدر‏:‏

فإن أهلك فرب فتى سيبكي *** عليّ مهذب رخص البنان

في عدة أبيات‏.‏ وقول أبي عبد الله الرازي‏:‏ أنهم اتفقوا على أنّ كلمة رب مختصة بالدخول على الماضي لا يصح، فعلى هذا لا يكون يودّ محتاجاً إلى تأويل‏.‏ وأما من تأول ذلك على إضمار كان أي‏:‏ ربما كان يودّ فقوله ضعيف، وليس هذا من مواضع إضمار كان‏.‏ ولما كان عند الزمخشري وغيره أنّ رب للتقليل احتاجوا إلى تأويل مجيء رب هنا، وطول الزمخشري في تأويل ذلك‏.‏ ومن قال‏:‏ إنها للتكثير، فالتكثير فيها هنا ظاهر، لأنّ ودادتهم ذلك كثيرة‏.‏

ومن قال‏:‏ إنّ التقليل والتكثير إنما يفهم من سياق الكلام لا من موضوع رب، قال‏:‏ دل سياق الكلام على الكثرة‏.‏ وقيل‏:‏ تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين، فإن كانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا، فلذلك قلل‏.‏ وقرأ عاصم، ونافع‏:‏ ربما بتخفيف الباء، وباقي السبعة بتشديدها‏.‏ وعن أبي عمر‏:‏ والوجهان‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف، وزيد بن علي، ربتما بزيادة تاء‏.‏ ومتى يودون ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ في الدنيا‏.‏ فقال الضحاك‏:‏ عند معاينة الموت‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ هم كفار قريش ودّوا ذلك في يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين‏.‏ وقيل‏:‏ حين حل بهم ما حل من تملك المسلمين أرضهم وأموالهم ونساءهم، ودُّوا ذلك قبل أن يحل بهم ما حل‏.‏ وقيل‏:‏ ودوا ذلك في الآخرة إذا أخرج عصاة المسلمين من النار قاله‏:‏ ابن عباس، وأنس بن مالك، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وإبراهيم، ورواه أبو موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقرأ الرسول هذه الآية، وقيل‏:‏ حين يشفع الرسول ويشفع حتى يقول‏:‏ من كان من المسلمين فليدخل الجنة، ورواه مجاهد عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إذا عاينوا القيامة ذكره الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المؤمن، ذكره ابن الأنباري‏.‏ ثم أمر تعالى نبيه بأن ينذرهم، وهو أمر وعيد لهم وتهديد أي‏:‏ ليسوا ممن يرعوي عن ما هو فيه من الكفر والتكذيب، ولا ممن تنفعه النصيحة والتذكير، فهم إنما حظهم حظ البهائم من الأكل والتمتع بالحياة الدنيا والأمل في تحصيلها، هو الذي يلهيهم ويشغلهم عن الإيمان بالله ورسوله‏.‏ وفي قوله‏:‏ يأكلوا ويتمتعوا، إشارة إلى أنّ التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للموت والتأهب له ليس من أخلاق من يطلب النجاة من عذاب الله في الآخرة، وعن بعض العلماء‏:‏ التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل‏.‏ وانجزم يأكلوا، وما عطف عليه جواباً للأمر‏.‏ ويظهر أنه أمر بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وبمهادنتهم وموادعتهم، ولذلك ترتب أن يكون جواباً، لأنه لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحرب ما هنا هم أكل ولا تمتع، وبدل على ذلك أنّ السورة مكية، وإذا جعلت ذرهم أمراً بترك نصيحتهم وشغل باله بهم، فلا يترتب عليه الجواب، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم، أم لم يتركها‏.‏ فسوف يعلمون‏:‏ تهديد ووعيد أي‏:‏ فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وما يؤولون إليه في الدنيا من الذل والقتل والسبي، وفي الآخرة من العذاب السرمدي‏.‏ ولما توعدهم بما يحل بهم أردف ذلك بما يشعر بهلاكهم، وأنه لا يستبطأ، فإنّ له أجلاً يتعداه، والمعنى‏:‏ من أهل قرية كافرين‏.‏ والظاهر أن المراد بالهلاك هلاك الاستئصال لمكذبي الرسل، وهو أبلغ في الزجر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الإهلاك بالموت، والواو في قوله‏:‏ ولها، واو الحال‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ مقحمة أي زائدة، وليس بشيء‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ بإسقاطها وقال الزمخشري‏:‏ الجملة واقعة صفة لقرية، والقياس أنْ لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون‏}‏ وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال‏:‏ جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب انتهى‏.‏ ووافقه على ذلك أبو البقاء فقال‏:‏ الجملة نعت لقرية كقولك‏:‏ ما لقيت رجلاً إلا عالماً قال‏:‏ وقد ذكرنا حال الواو في مثل هذا في البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم‏}‏ انتهى‏.‏ وهذا الذي قاله الزمخشري وتبعه فيه أبو البقاء لا نعلم أحداً قاله من النحويين، وهو مبني على أنّ ما بعداً لا يجوز أن يكون صفة، وقد منعوا ذلك‏.‏ قال‏:‏ الأخفش لا يفصل بين الصفة والموصوف بالإثم، قال‏:‏ ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره‏:‏ إلا رجل راكب، وفيه قبح بجعلك الصفة كالإسم‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ تقول ما مررت بأحد إلا قائماً، فقائماً حال من أحد، ولا يجوز إلا قائم، لأنّ إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف‏.‏ وقال ابن مالك‏:‏ وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشري من قوله‏:‏ في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه، أنّ الجملة بعد إلا صفة لأحد، أنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي، فلا يلتفت إليه‏.‏ وأبطل ابن مالك قول الزمخشري أنّ الواو توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف‏.‏ وقال القاضي منذر بن سعيد‏:‏ هذه الواو هي التي تعطي أنّ الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاءُوها وفتحت أبوابها‏}‏ انتهى‏.‏

والظاهر أنّ الكتاب المعلوم هو الأجل الذي كتب في اللوح وبين، ويدل على ذلك ما بعده‏.‏ وقيل‏:‏ مكتوب فيه أعمالهم وأعمارهم وآجال هلاكهم‏.‏ وذكر الماوردي‏:‏ كتاب معلوم أي‏:‏ فرض محتوم، ومن زائدة تفيد استغراق الجنس أي‏:‏ ما تسبق أمة، وأنث أجلها على لفظ أمة وجمع وذكر في وما يستأخرون حملاً على المعنى، وحذف عنه لدلالة الكلام عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ‏(‏6‏)‏ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏7‏)‏ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قال مقاتل‏:‏ نزلت في عبد الله بن أمية، والنضر بن الحرث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ نزل عليه الذكر ماضينا مخففاً مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ‏:‏ يا أيها الذي ألقي إليه الذكر، وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيراً، لأنها مخالفة لسواد المصحف‏.‏ وهذا الوصف بأنه الذي نزل عليه الذكر قالوه على جهة الاستهزاء والاستخفاف، لأنهم لا يقرون بتنزيل الذكر عليه، وينسبونه إلى الجنون، إذ لو كان مؤمناً برسالة موسى وما أخبر عنه بالجنون‏.‏ ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بالملائكة شاهدين لصدقك وبصحة دعواك وإنذارك كما قال‏:‏ ‏{‏لولا أنزل إليه ملك‏}‏ فيكون معه نذيراً أو معاقبين على تكذيبك، كما كانت تأتي الأمم المكذبة‏.‏ وقرأ الحرميان والعربيان‏:‏ ما تنزل مضارع تنزل أي‏:‏ ما تتنزل الملائكة بالرفع‏.‏ وقرأ أبو بكر، ويحيى بن وثاب‏:‏ ما تنزل بضم التاء وفتح النون والزاي الملائكة بالرفع‏.‏ وقرأ الأخوان، وحفص، وابن مصرف‏:‏ ما ننزل بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الزاي الملائكة بالنصب‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ ما نزل ماضياً مخففاً مبنياً للفاعل الملائكة بالرفع‏.‏ والحق هنا العذاب قاله الحسن، أو الرسالة قاله مجاهد، أو قبض الأرواح عند الموت قاله ابن السائب، أو القرآن ذكره الماوردي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ألا تنزلا ملتبساً بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أنْ تأتيكم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والظاهر أنّ معناها‏:‏ كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده، لا على اقتراح كافر، ولا باختيار معترض‏.‏ ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في أثرها إنْ لم يؤمنوا، فكان الكلام ما تنزل الملائكة إلا بحق واجب لا باقتراحكم‏.‏ وأيضاً فلو نزلت لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب أي‏:‏ تؤخروا والمعنى، وهذا لا يكون إذ كان في علم الله أنّ منهم من يؤمن، أو يلد من يؤمن‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وادن جواب وجزاء، لأنه جواب لهم، وجزاء بالشرط مقدر تقديره‏:‏ ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذبهم‏.‏ ولما قالوا على سبيل الاستهزاء‏:‏ يا أيها الذي نزل عليه الذكر، رد عليهم بأنه هو المنزل عليه، فليس من قبله ولا قبل أحد، بل هو الله تعالى الذي بعث به جبريل عليه السلام إلى رسوله، وأكد ذلك بقوله‏:‏ إنا نحن، بدخول إنّ وبلفظ نحن‏.‏ ونحن مبتدأ، أو تأكيد لاسم إنّ ثم قال‏:‏ وإنا له لحافظون أي‏:‏ حافظون له من الشياطين‏.‏ وفي كل وقت تكفل تعالى بحفظه، فلا يعتريه زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تبديل، بخلاف غيره من الكتب المتقدمة، فإنه تعالى لم يتكفل حفظها بل قال تعالى‏:‏ إن الربانيين والأحبار استحفظوا ولذلك وقع فيها الاختلاف‏.‏

وحفظه إياه دليل على أنه من عنده تعالى، إذ لو كان من قول البشر لتطرق إليه ما تطرق لكلام البشر‏.‏ وقال الحسن‏:‏ حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ يحفظه في قلوب من أراد بهم خيراً حتى لو غير أحد نقطة لقال له الصبيان‏:‏ كذبت، وصوابه كذا، ولم يتفق هذا لشيء من الكتب سواه‏.‏ وعلى هذا فالظاهر أنّ الضمير في له عائد على الذكر، لأنه المصرح به في الآية، وهو قول الأكثر‏:‏ مجاهد، وقتادة، وغيرهما‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الضمير في له عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ يحفظه من أذاكم، ويحوطه من مكركم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ وفي ضمن هذه الآية التبشير بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظهر الله به الدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 15‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏11‏)‏ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏12‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ‏(‏14‏)‏ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى استهزاء الكفار به عليه السلام، ونسبته إلى الجنون، واقتراح نزول الملائكة، سلاه تعالى بأن من أرسل من قبلك كان ديدن الرسل إليهم مثل ديدن هؤلاء معك‏.‏ وتقدم تفسير الشيع في أواخر الأنعام‏.‏ ومفعول أرسلنا محذوف أي‏:‏ رسلاً من قبلك‏.‏ وقال الفراء‏:‏ في شيع الأولين هو من إضافة الشيء إلى صفته كقوله‏:‏ حق اليقين، وبجانب الغربي أي الشيع الموصوف، أي‏:‏ في شيع الأمم الأولين، والأولون هم الأقدمون‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وما يأتيهم حكاية ماضية، لأنّ ما لا تدخل على مضارع، إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكره هو قول الأكثر من أنّ ما تخلص المضارع للحال وتعينه له، وذهب غيره إلى أنّ ما يكثر دخولها على المضارع مراداً به الحال، وتدخل عليه مراداً به الاستقبال، وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب‏:‏

أودي بني وأودعوني حسرة *** عند الرقاد وعبرة ما تقلع

وقول الأعشى يمدح الرسول عليه السلام‏:‏

له نافلات ما يغب نوالها *** وليس عطاء اليوم مانعه غدا

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ‏}‏ والضمير في نسلكه عائد على الذكر قاله الزمخشري، قال‏:‏ والضمير للذكر أي‏:‏ مثل ذلك السلك‏.‏ ونحوه‏:‏ نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزأ به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت‏:‏ كذلك أنزلها باللئام يعني‏:‏ مثل هذا الإنزال أنزلها بهم، مردودة غير مقصية‏.‏ ومحل قوله‏:‏ لا يؤمنون النصب على الحال أي‏:‏ غير مؤمن به، أو هو بيان لقوله‏:‏ كذلك نسلكه انتهى‏.‏ وما ذهب إليه من أنّ الضمير عائد على الذكر ذكره الغرنوي عن الحسن‏.‏ قال الحسن‏:‏ معناه نسلك الذكر إلزاماً للحجة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الضمير في نسلكه عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه، وهو قول‏:‏ الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد‏.‏ ويكون الضمير في به يعود أيضاً على ذلك نفسه، وتكون باء السبب أي‏:‏ لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله‏:‏ لا يؤمنون به في موضع الحال، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن أي‏:‏ مكذباً به مردوداً مستهزأ به، يدخله في قلوب المجرمين‏.‏ ويكون الضمير في به عائداً عليه، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الاستهزاء والشرك، والضمير في به يعود على القرآن، فيختلف على هذا عود الضميرين انتهى‏.‏ وروى ابن جريج عن مجاهد بذلك التكذيب، فعلى هذا تكون الباء في به للسبب‏.‏ والذي يظهر عوده على الاستهزاء المفهوم من قوله‏:‏ يستهزؤون، والباء في به للسبب‏.‏

والمجرمون هنا كفار قريش، ومن دعاهم الرسول إلى الإيمان‏.‏ ولا يؤمنون إن كان إخباراً مستأنفاً فهو من العام المراد به الخصوص فيمن ختم عليه، إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول‏.‏ وقد خلت سنة الأولين في تكذيبهم رسلهم، أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم، واستهزأوا بهم، وهو تهديد لمشركي قريش‏.‏ والضمير في عليهم عائد على المشركين، وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإيمان حتى ينكروا ما هو محسوس مشاهد بالأعين مماس بالأجساد بالحركة والانتقال، وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق‏.‏ والظاهر أنّ الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله‏:‏ عليهم، أي‏:‏ لو فتح لهم باب من السماء، وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا‏:‏ هو شيء تتخيله لا حقيقة له، وقد سخرنا بذلك‏.‏ وجاء لفظ فظلوا مشعراً بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا، على أنّ ظل يأتي بمعنى صار أيضاً‏.‏ وعن ابن عباس أنّ الضمير في فظلوا يعود على الملائكة لقولهم‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ أي‏:‏ ولو رأوا الملائكة تصعد وتنصرف في باب مفتوح في السماء لما آمنوا‏.‏

وقرأ الأعمش، وأبو حيوة‏:‏ يعرجون بكسر الراء، وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود‏.‏ وجاء لفظ إنما مشعراً بالحصر، كأنه قال‏:‏ ليس ذلك إلا تسكيراً للأبصار‏.‏ وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن كثير‏:‏ سكرت بتخفيف الكاف مبنياً للمفعول، وقرأ باقي السبعة‏:‏ بشدها مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ الزهري‏:‏ بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنياً للفاعل، شبهوا رؤية أبصارهم برؤية السكران لقلة تصوره ما يراه‏.‏ فأما قراءة التشديد فعن ابن عباس وقتادة منعت عن رؤية الحقيقة من السكر، بكسر السين وهو الشد والحبس‏.‏ وعن الضحاك شدّت، وعن جوهر جدعت، وعن مجاهد حبست، وعن الكلبي عميت، وعن أبي عمرو غطيت، وعن قتادة أيضاً أخذت، وعن أبي عبيد غشيت‏.‏ وأما قراءة التخفيف فقيل‏:‏ بالتشديد، إلا أنه للتكثير، والتخفيف يؤدي عن معناه‏.‏ وقيل‏:‏ معنى التشديد أخذت، ومعنى التخفيف سحرت‏.‏ والمشهور أن سكر لا يتعدى‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ويجوز أن يكون سمع متعدياً في البصر‏.‏ وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال‏:‏ سكرت أبصارهم إذا غشيها سهاد حتى لا يبصروا‏.‏ وقيل‏:‏ التشديد من سكر الماء، والتخفيف من سكر الشراب، وتقول العرب‏:‏ سكرت الريح تسكر سكراً إذا ركدت ولم تنفذ لما انتفت بسبيله، أولاً وسكراً الرجل من الشراب سكراً إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما كان للإنسان أن ينفذ فيه‏.‏ ومن هذا المعنى سكران لا يبت أي‏:‏ لا يقطع أمراً‏.‏ وتقول العرب‏:‏ سكرت في مجاري الماء إذا طمست، وصرفت الماء فلم ينفذ لوجهه‏.‏ فإن كان من سكر الشراب، أو من سكر الريح، فالتضعيف للتعدية‏.‏ أو من سكر مجاري الماء فللتكثير، لأنّ مخففة متعد‏.‏

وأما سكرت بالتخفيف فإن كان من سكر الماء ففعله متعد، أو من سكر الشراب أو الريح فيكون من باب وجع زيد ووجعه غيره، فتقول‏:‏ سكر الرجل وسكره غيره، وسكرت الريح وسكرها غيرها، كما جاء سعد زيد وسعده غيره‏.‏ ولخص الزمخشري في هذا فقال‏:‏ وسكرت خيرت أو حبست من السكر، أو السكر‏.‏ وقرئ بالتخفيف أي‏:‏ حبست كما يحبس النهر عن الجري انتهى‏.‏ وقرأ ابان بن ثعلب‏:‏ سحرت أبصارنا‏.‏ ويجيء قوله‏:‏ بل نحن قوم مسحورون، انتقالاً إلى درجة عظمى من سحر العقل‏.‏ وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسير معنى لا تلاوة، لمخالفتها سواد المصحف‏.‏ وجاء جواب ولو، قوله‏:‏ لقالوا أي أنهم يشاهدون ما يشاهدون، ولا يشكون في رؤية المحسوس، ولكنهم يقولون ما لا يعتقدون مواطأة على العناد، ودفع الحجة، ومكابرة وإيثاراً للغلبة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏16‏)‏ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏17‏)‏ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد، ذكر دلائله السماوية، وبدأ بها ثم أتبعها بالدلائل الأرضية‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها، عقب ذلك بهذه الآية كأنه قال‏:‏ وإنّ في السماء لعبراً منصوبة عبر عن هذه المذكورة، وكفرهم بها، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو انتهى‏.‏ والظاهر أن جعلنا بمعنى خلقنا، وفي السماء متعلق بجعلنا‏.‏ ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا، وفي السماء المفعول الثاني، فيتعلق بمحذوف‏.‏ والبروج جمع برج، وتقدم شرحه لغة‏.‏ قال الحسن وقتادة‏:‏ هي النجوم‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ الكواكب السيارة‏.‏ وقال علي بن عيسى‏:‏ اثنا عشر برجاً‏:‏ الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وهي منازل الشمس والقمر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ قصور في السماء فيها الحرس، وهي المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏ملئت حرساً شديداً وشهباً‏}‏ وقيل‏:‏ الفلك اثنا عشر برجاً، كل برج ميلان ونصف‏.‏ والظاهر أن الضمير في وزيناها عائد على البروج لأنها المحدث عنها، والأقرب في اللفظ‏.‏ وقيل‏:‏ على السماء، وهو قول الجمهور‏.‏ وخص بالناظرين لأنها من المحسوسات التي لا تدرك إلا بنظر العين‏.‏ ويجوز أن يكون من نظر القلب لما فيها من الزينة المعنوية، وهو ما فيها من حسن الحكم وبدائع الصنع وغرائب القدرة‏.‏ والضمير في حفظناها عائد على السماء، ولذلك قال الجمهور‏:‏ إن الضمير في وزيناها عائد على السماء حتى لا تختلف الضمائر، وحفظ السماء هو بالرجم بالشهب على ما تضمنته الأحاديث الصحاح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الشياطين تقرب من السماء أفواجاً فينفرد المارد منها فيستمع، فيرمي بالشهاب فيقول لأصحابه‏.‏ وهو يلتهب‏:‏ إنه الأمر كذا وكذا، فتزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة فيزيدون على الكلمة مائة كلمة» ونحو هذا الحديث‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن الشهب تخرج وتؤذي، ولا تقتل‏.‏ وقال الحسن‏:‏ تقتل‏.‏ وفي الأحاديث ما يدل على أنّ الرجم كان في الجاهلية ولكنه اشتد في وقت الإسلام‏.‏ وحفظت السماء حفظاً تاماً‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ إلا من استرق، استثناء متصل والمعنى‏:‏ فإنها لم تحفظ منه، ذكره الزهراوي وغيره والمعنى‏:‏ أنه سمع من خبرها شيئاً وألقاه إلى الشياطين‏.‏ وقيل‏:‏ هو استثناء منقطع والمعنى‏:‏ أنها حفظت منه، وعلى كلا التقديرين فمِن في موضع نصب‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ من بدل من كل شيطان، وكذا قال أبو البقاء‏:‏ حر على البدل أي‏:‏ إلا ممن استرق السمع‏.‏ وهذا الإعراب غير سائغ، لأن ما قبله موجب، فلا يمكن التفريغ، فلا يكون بدلاً، لكنه يجوز أن يكون إلا من استرق نعتاً على خلاف في ذلك‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ويجوز أن يكون من في موضع رفع على الابتداء، وفأتبعه الخبر‏.‏ وجاز دخول الفاء من أجل أنّ مِن بمعنى الذي، أو شرط انتهى‏.‏ والاستراق افتعال من السرقة، وهي أخذ الشيء بخفية، وهو أن يخطف الكلام خطفة يسيرة‏.‏ والسمع المسموع، ومعنى مبين‏:‏ ظاهر للمبصرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 25‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ‏(‏19‏)‏ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏21‏)‏ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ‏(‏22‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ‏(‏23‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ‏(‏24‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

مددناها بسطناها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها‏.‏ قال الحسن‏:‏ أخذ الله طينة فقال لها‏:‏ انبسطي فانبسطت‏.‏ وقيل‏:‏ بسطت من تحت الكعبة‏.‏ ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية، كان النصب على الاشتغال أرجح من الرفع على الابتداء، فلذلك نصب والأرض‏.‏ والرواسي‏:‏ الجبال، وفي الحديث‏:‏ «إن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة فثبتها الله بالجبال» ومِن في من كل للتبعيض، وعند الأخفش هي زائدة أي كل شيء‏.‏ والظاهر أنّ الضمير في فيها يعود على الأرض الممدودة، وقيل‏:‏ يعود على الجبال، وقيل‏:‏ عليها وعلى الأرض معاً‏.‏ قال ابن عباس، وابن جبير‏:‏ موزون مقدر بقدر‏.‏ وقال الزمخشري قريباً منه قال‏:‏ وزن بميزان الحكمة، وقدر بمقدار يقتضيه لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ قال الجمهور‏:‏ معناه مقدر محرر بقصد وإرادة، فالوزن على هذا مستعار‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة، وغير ذلك مما يوزن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ موزون مقسوم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معدود، وقال الزمخشري‏:‏ أوله وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة‏.‏ وبسطه غيره فقال‏:‏ ما له منزلة، كما تقول‏:‏ ليس له وزن أي‏:‏ قدر ومنزلة‏.‏ ويقال‏:‏ هذا كلام موزون، أي منظوم غير منتثر‏.‏ فعلى هذا أي‏:‏ أنبتنا فيها، ما يوزن من الجواهر والمعادن والحيوان‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنبتها نباتاً حسناً‏}‏ والمقصود بالإنبات الإنشاء والإيجاد‏.‏

وقرأ الأعرج وخارجة عن نافع‏:‏ معائش بالهمز‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والوجه ترك الهمز، وعلل ذلك بما هو معروف في النحو‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ معايش بياء صريحة بخلاف الشمائل والخبائث، فإنّ تصريح الياء فيها خطأ، والصواب الهمزة، أو إخراج الياء بين بين‏.‏ وتقدم تفسير المعايش أول الأعراف والظاهر أنّ من لمن يعقل ويراد به العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون، فإن الله هو الرزاق يرزقكم وإياهم‏.‏ وقال معناه الفراء، ويدخل معهم ما لا يعقل بحكم التغليب كالأنعام والدواب، وما بتلك المثابة مما الله رازقه، وقد سبق إلى ظنهم أنهم الرازقون، وقال معناه الزجاج‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الدواب والأنعام والبهائم‏.‏ وقيل‏:‏ الوحوش والسباع والطير‏.‏ فعلى هذين القولين يكون من لما لا يعقل‏.‏ والظاهر أنّ مِن في موضع جر عطفاً على الضمير المجرور في لكم، وهو مذهب الكوفيين ويونس والأخفش‏.‏ وقد استدل القائل على صحة هذا المذهب في البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏وكفر به والمسجد الحرام‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ من منصوب بفعل محذوف تقديره‏:‏ وأعشنا من لستم أي‏:‏ أمماً غيركم، لأنّ المعنى أعشناكم‏.‏ وقيل‏:‏ عطفاً على معايش أي‏:‏ وجعلنا لكم من لستم له برازقين من العبيد والصناع‏.‏ وقيل‏:‏ والحيوان‏.‏ وقيل‏:‏ عطفاً على محل لكم‏.‏ وقيل‏:‏ من مبتدأ خبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي‏:‏ ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش‏.‏

وهذا لا بأس به، فقد أجازوا ضربت زيداً وعمرو بالرفع على الابتداء أي‏:‏ وعمرو ضربته، فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه‏.‏ وتقدم شرح الخزائن‏.‏ وإنْ نافية، ومن زائدة، والظاهر أنّ المعنى‏:‏ وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والأنعام به، فتكون الخزائن وهي ما يحفظ فيه الأشياء مستعارة من المحسوس الذي هو الجسم إلى المعقول‏.‏ وقال قوم‏:‏ المراد الخزائن حقيقة، وهي التي تحفظ فيها الأشياء، وأن للريح مكاناً، وللمطر مكاناً، ولكل مكان ملك وحفظه، فإذا أمر الله بإخراج شيء منه أخرجته الحفظة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالشيء هنا المطر، قاله ابن جريج‏.‏

وقرأ الأعمش‏:‏ وما نرسله مكان وما ننزله، والإرسال أعم، وهي قراءة تفسير معنى لا أنها لفظ قرآن، لمخالفتها سواد المصحف‏.‏ وعن ابن عباس، والحكم بن عيينة‏:‏ أنه ليس عام أكثر مطراً من عام، ولكنّ الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع‏.‏ ولواقح جمع لاقح، يقال‏:‏ ريح لاقح جائيات بخير من إنشاء سحاب ماطر، كما قيل للتي لا تأتي بخير بل بشر ريح عقيم، أو ملاقح أي‏:‏ حاملات للمطر‏.‏ وفي صحيح البخاري‏:‏ لواقح ملاقح ملقحة‏.‏ وقال عبيد بن عمير‏:‏ يرسل الله المبشرة تقم الأرض قمائم المثيرة، فتثير السحاب‏.‏ ثم المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر‏.‏ ومن قرأ بإفراد الريح فعلى تأويل الجنس كما قالوا‏:‏ أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، وسقى وأسقى قد يكونان بمعنى واحد‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ من سقى الشفة سقى فقط، أو الأرض والثمار أسقى، وللداعي لأرض وغيرها بالسقيا أسقى فقط‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام، ومن السماء، أو نهر يجري‏:‏ أسقيته، أي جعلته شرباً له، وجعلت له منه مسقى‏.‏ فإذا كان للشفة قالوا‏:‏ سقى، ولم يقولوا أسقى‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ سقيته حتى روي، وأسقيته نهراً جعلته شرباً له‏.‏ وجاء الضمير هنا متصلاً بعد ضمير متصل كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أنلزمكموها‏}‏ وتقدم أنّ مذهب سيبويه فيه وجوب الاتصال‏.‏ وما أنتم له بخازنين أي‏:‏ بقادرين على إيجاده، تنبيهاً على عظيم قدرته، وإظهار العجز‏.‏ هم أي‏:‏ لستم بقادرين عليه حين احتياجكم إليه‏.‏ وقال سفيان‏:‏ بخازنين أي بمانعين المطر‏.‏ نحيي‏:‏ نخرجه من العدم الصرف إلى الحياة‏.‏ ونميت‏:‏ نزيل حياته‏.‏ ونحن الوارثون الباقون بعد فناء الخلق‏.‏ والمستقدمين قال ابن عباس والضحاك‏:‏ الأموات، والمستأخرين الأحياء‏.‏ وقال قتادة وعكرمة وغيرهما‏:‏ المستقدمين في الخلق والمستأخرين الذين لم يخلقوا بعد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المستقدمين من الأمم والمستأخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الحسن وقتادة أيضاً‏:‏ في الطاعة والخير، والمستأخرين بالمعصية والشر‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ في صفوف الحرب، والمستأخرين فيها‏.‏ وقيل‏:‏ من قتل في الجهاد، والمستأخرين من لم يقتل‏.‏ وقيل‏:‏ في صفوف الصلاة، والمستأخرين بسبب النساء لينظروا إليهن‏.‏ وقال قتادة أيضاً‏:‏ السابقين إلى الإسلام والمتقاعسين عنه‏.‏ والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر، والمعنى‏:‏ أنه تعالى محيط علمه بمن تقدم وبمن تأخر وبأحوالهم، ثم أعلم تعالى أنه يحشرهم‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ يحشرهم بكسر الشين‏.‏ وقال ابن عباس ومروان بن الحكم، وأبو الحوراء‏:‏ كانت تصلي وراء الرسول امرأة جميلة، فبعض يتقدم لئلا تفتنه وبعض يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة، فنزلت الآية فيهم‏.‏ وفصل هذه الآية بهاتين الصفتين من الحكمة والعلم في غاية المناسبة‏.‏